الحكيم أبو الافكار يحب السفر بين المدن كثيرا, كما أنه يحب التقاء الناس للتعرف عليهم وعلى صفاتهم وأفكارهم, وكان يهتم بتوجيه كلماته المفيدة اذا سألوه عن حلول لمشاكلهم. و إذا لم يسألوه فإنه لا يتوانى عن إرشادهم بأي طريقة يراها مناسبة. وفي آخر مدينة زارها أحب اهلها الكرماء كثيرا, إذ لم يخل يوم من استضافته, كما أعجبته الحدائق التي تملأ المدينة, و أسبلة المياه التي وضعت في الطريق.
عندما قرر الحكيم السفر بعد إنتهاء جولته استدعى الأهالي وأخبرهم أنه قرر مكافأتهم لطيبة قلوبهم بمنحهم كنزا تركه مدفونا في جزيرة "الجمال". فرح الأهالي بمنحة الحكيم و تساءلوا عمن يمكن أن يذهب لإحضار الكنز. وحتى لا يتشاجر الجميع مع بعضهم البعض الآخر أخبرهم الحكيم ان عليهم ان يختاروا خمسة من الفتيان الاقوياء القادرين على مشاق السفر, و يمتازون بالقدرة على التحمل لأنه من شروط الحصول على الكنز الا يحملوا معهم ماء ولا طعاما عدا الخبز الجاف, وإلا فإنهم لن يحصلوا على الكنز الذي سيكون ملكا لجميع اهالي المدينة. وبعد أن تم اختيار الفتيان الخمسة زودهم الحكيم بصندوق صغير, وطلب اليهم ألا يفتحوه لحين عثورهم على الكنز, كما زودهم بخريطة الطريق اى الجزيرة, وحدد عليها مكان الكنز, ثم قام بتوديع أهل المدينة.
أبحر الفتيان نحو الجزيرة, و استغرقت الرحلة أياما شاقة بسبب حرارة الشمس و افتقادهم للماء, و تمنوا لو أن الحكيم لم يشترط ذلك الشرط الشاق عليهم, و كان الخبز الناشف قد شقق حلوقهم و ألسنتهم, حتى عندما غمسوه بمياه البحر المالحة لترطيبه و جعله لينا كان يزداد عطشهم و تحرق ملوحة المياه جروحهم. و بعد عدة أيام لاحت لهم الجزيرة فرسوا على شواطئها وقطعوا سهلا منبسطا تتوسطه حفرة عميقة التفوا حولها وهم منهكون من التعب, وساروا حتى وصلوا اطراف غابة صغيرة واخذوا يجيلون النظر, حتى وصلوا الى قرب الصخرة التي رسمها لهم, وكانت منحوتة على هيئة طير بجناحين يمتد منقاره الى الامام, شعر الفتية بالفرح الشديد, ورغم تعبهم وعطشهم تحاملوا على انفسهم وحملوا معاولهم وفئوسهم وبدأوا الحفر, وكم كانت دهشتهم حين انبثق من الارض خيط من ماء أصابهم بطشاش ورذاذ, وسرعان ما ارتموا على الارض يلعقون المياه ويتناولونها بأيديهم, غسلوا وجوههم وبللوا ملابسهم, وكلما حفروا أكثر زاد انبعاث الماء من الارض ثم أخذوا يفكرون بكنز الحكيم وتذكروا الصندوق الذي طلب اليهم ألا يفتحوه, فأحظروه ووجدوا بداخله أوعية لحفظ الماء. فهم الفتية ما قصده الحكيم بالكنز, وتذكروا انه عندما حل ضيفا كان كثيرا ما يرفع ملابسه كي لا تبتل بالمياه المتسربة من المنازل, ومن سقاية الحدائق, وعندما كان يمر على سبيل الماء ليشرب أو يغتسل كلن يحكم إغلاق صنابير المياه, في وقت لم يكن أحدهم لو رآها تهدر ماءها دون فائدة. ملأ الفتية الاوعية بالمياه وأبحروا نحو المدينة وفي خاطرهم الحرص والحفاظ على كنز مدينتهم, بعدما ذاقوا العطش لأيام عدة.
من مجلة "العربي الصغير" عدد 138 ص 10 - 11